فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)}.
{قَالَ} عدولًا إلى ما هو أوضح وأقرب إعطاء لمنصب الإرشاد حقه حسب الإمكان لتعذر الوقوف على الحقيقة كما سمعت: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاولين} فإن الحدوث والافتقار إلى واجب مصور حكيم في المخاطبين وآبائهم الذين ذهبوا وعدموا أظهر والنظر في الأنفس أقرب وأوضح من النظر في الآفاق؛ ولما رأى اللعين ذلك وقوي عنده خوف فتنة قومه.
{قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)}.
{قَالَ} مبالغًا في الرد والإشارة إلى عدم الاعتداد بذلك مصرحًا بما ينفر قلوبهم عن قائله وقبول ما يجىء به.
{إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} حيث يسئل عن شيء ويجيب عن شيء آخر وينبه على ما في جوابه ولا ينتبه، وسماه رسولًا بطريق الاستهزاء، وأضافه إلى مخاطبيه ترفعًا من أن يكون مرسلًا إلى نفسه وأكد ذلك بالوصف، وفيه إثارة لغضبهم واستدعاء لإنكارهم رسالته بعد سماع الخبر ترفعًا بأنفسهم عن أن يكونوا أهلًا لأن يرسل إليهم مجنون.
وقرأ مجاهد وحميد والأعرج {أُرْسِلَ} على بناء الفاعل أي الذي أرسله ربه إليكم، وكأنه عليه السلام لما رأى خشونة في رد اللعين وإيماء منه إلا أنه عليه السلام لم يتنبه لما في جوابه الأول من الخفاء عند قومه بل كان عدوله عنه إلى الجواب الثاني لما رماه به عليه اللعنة.
{قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)}.
{قَالَ} عليه السلام تفسيرًا لجوابه الأول وإزالة لخفائه ليعلم أن العدول ليس إلا لظهور ما عدل إليه ووضوحه وقربه إلى الناظر لا لما رمى به وحاشاه مع الإشارة إلى تعذر بيان الحقيقة أيضًا بالإصرار على الجواب بالصفات {رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا} وذلك لأنه لم يكن في الجواب الأول تصريح باستناد حركات السموات وما فيها وتغيرات أحوالها وأوضاعها وكون الأرض تارة مظلمة وأخرى منورة إلى الله تعالى، وفي هذا إرشاد إلى ذلك فإن ذكر المشرق والمغرب منبىء عن شروق الشمس وغروبها المنوطين بحركات السموات وما فيها على نمط بديع يترتب عليه هذه الأوضاع الرصينة وكل ذلك أمور حادثة لا شك في افتقارها إلى محدث قادر عليكم حكيم، وارتكب عليه السلام الخشونة كما ارتكب معه بقوله: {إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} أي ان كنتم تعقلون شيئًا من الأشياء أو ان كنتم من أهل العقل علمتم أن الأمر كما قلته وأشرت إليه فإن فيه تلويحًا إلى أنهم بمعزل من دائرة العقل وأنهم الأحقاء بما رموه به عليه السلام من الجنون.
وقرأ عبد الله وأصحابه والأعمش {رَبّ المشارق والمغارب} على الجمع فيهما، ولما سمع العين منه عليه السلام تلك المقالات المبينة على أساس الحكم البالغة وشاهد شدة حزمه وقوة عزمه على تمشية أمره وأنه ممن لا يجاري في حلبة المحاورة.
{قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)}.
{قَالَ} ضاربًا صفحًا عن المقاولة إلى التهديد كما هود يدن المحجوج العنيد: {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} وفيه مبالغة في رده عن دعوى الرسالة حيث أراد منه ما أراد ولم يقنع منه عليه السلام بترك دعواها وعدم التعرض له، وفيه أيضًا عتو آخر حيث أوهم أن موسى عليه السلام متخذ له إلهًا في ذلك الوقت وأن اتخاذه غيره الهًا بعد مشكوك، وبالغ في الإبعاد على تقدير وقوع ذلك حيث أكد الفعل بما أكد وعد عن لأسجننك الأخصر لذلك أيضًا فإن أل في المسجونين للعهد فكأنه قال: لأجعلنك ممن عرفت أحوالهم في سجوني، وكان عليه العنة يطرحهم في هوة عميقة قيل: عمقها خمسمائة ذراع وفيها حيات وعقارب حتى يموتوا.
هذا وقال بعضهم: السؤال هنا وفي سورة طه عن الوصف والقصة واحدة والمجلس واحد واختلاف العبارات فيها لاقتضاء كل مقام ما عبر به فيه ويلتزم القول بأن الواقع هو القدر المشترك بين جميع تلك العبارات، وبهذا ينحل اشكال اختلاف العبارات مع دعوى اتحاد القصة والمجلس لكن تعيين القدر المشترك الذي يصح أن يعبر عنه بكل من تلك العبارات يحتاج إلى نظر دقيق مع مزيد لطف وتوفيق، ثم ان العلماء اختلفوا في أن اللعين هل كان يعلم أن للعالم ربا هو الله عز وجل أولًا، فقال بعضهم: كان يعلم ذلك بدليل {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السموات والأرض} [الإسراء: 102] ومنهم من استدل بطلبه شرح الماهية زعما منه أن فيه الاعتراف باصل الوجود وذكروا أن ادعاءه الألوهية وقوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى} [النازعات: 24] إنما كان ارهابًا بالقومه الذين استخفهم ولم يكن ذلك عن اعتقاد وكيف يعتقد أنه رب العالم وهو يعلم بالضرورة أنه وجد بعد ان لم يكن ومضى على العالم ألوف من السنين وهو ليس فيه ولم يكن له إلا ملك مصر ولذا قال شعيب لموسى عليهما السلام: لما جاءه في مدين {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} [القصص: 25].
وقال بعضهم: إنه كان جاهلًا بالله تعالى ومع ذلك لا يعتقد في نفسه أنه خالق السموات والأرض وما فيهما بل كان دهريا نافيًا للصانع سبحانه معتقدًا وجوب الوجود بالذات للإفلاك وإن حركاتها أسباب لحصول الحوادث ويعتقد أن من ملك قطرا وتولى أمره لقوة طالعة استحق العبادة من أهله وكان ربًا لهم ولهذا خصص ألوهيته وربوبيته ولم يعمهما حيث قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ} [القصص: 38] {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ الاعلى} [النازعات: 24]، وجوز أن يكون الحلولية القائلين بحلول الرب سبحانه وتعالى في بعض الذوات ويكون معتقدًا حلوله عز وجل فيه ولذلك سمي نفسه إلهًا، وقيل: كان يدعي الألوهية لنفسه ولغيره وهو ما كان يعبده من دون الله عز وجل كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى: {وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ} [الأعراف: 127] وهو وكذا ما قبله بعيد، والذي يغلب على الظن ويقتضيه أكثر الظواهر أن اللعين كان يعرف الله عز وجل وأنه سبحانه هو خالق العالم إلا أنه غلبت عليه شقوته وغرته دولته فاظهر لقومه خلاف علمه فاذعن منهم له من كثر جهله ونزر عقله، ولا يبعد أن يكون في الناس من يذعن بمثل هذه الخرافات ولا يعرف أنها مخالفة للبديعيات، وقد نقل لي من أثق به أن رجلين من أهل نجد قبل ظهور أمر الوهابي فيما بينهم بينما هما في مزرعة لهما إذ مر بهما طائر طويل الرجلين لم يعهدا مثله في تلك الأرض فنزل بالقرب منهما فقال أحدهما للآخر: ما هذا؟ فقال له: لا ترفع صوتك هذا ربنا فقال له معتقدًا صدق ذلك الهذيان: سبحانه ما أطول كراعيه وأعظم جناحيه، وأما من له عقل منهم ولا يخفى عليه بطلان مثل ذلك فيحتمل أن يكون قد وافق ظاهرًا لمزيد خوفه من فرعون أو مزيد رغبته بما عنده من الدنيا كما نشاهد كثيرًا من العقلاء وفسقة العلماء وافقوا جبابرة الملوك في أباطيلهم العلمية والعملية حبا للدنيا الدنية أو خوفًا مما يتوهمونه من البلية، ويحتمل أن يكون قد اعتقد ذلك حقيقة بضرب من التوجيه وإن كان فاسدًا كزعم الحلول ونحوه، والمنكر على القائل أنا الحق والقائل ما في الجبة إلا الله يزعم أن معتقدي صدقهما كمعتقدي صدق فوعون في قوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى} [النازعات: 24] وسؤال اللعين لموسى عليه السلام حكاية لما وقع في عبارته بقوله: {مَا رَبّ العالمين} [الشعراء: 23] كان لإنكاره لظاهر أن يكون للعالمين رب سواه، وجواب موسى عليه السلام له لم يكن إلا لابطال ما يدعيه ظاهرًا وارشاد قومه إلى ما هو الحق الحقيق بالقبول ولذا لم يقصر الخطاب في الأجوبة عليه، والتعجيب المفهوم من قوله: {أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 25] لزعمه ظاهرًا أنه عليه السلام ادعى خلاف أمر محقق وهي ربوبية نفسه، ولما داخله من خوف اذعان قومه لما قاله موسى عليه السلام ما داخله بالغ في صرفهم عن قبول الحق بقوله: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] ولما رأى أن ذلك لم يفد في دفع موسى عليه السلام عن إظهار الحق وإبطال ما كان يظهره من الباطل ذب عن دعواه الباطلة بالتهديد وتشديد الوعيد فقال: {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} ولعل أجوبته عليه السلام مشيرة إلى إبطال اعتقاد نحو الحلول بأن فيه الترجيح بلا مرجح وبأنه يستلزم المربوبية لما فيه من التغير، وبعد هذا القول عندي قول بعضهم: إنه عليه اللعنة كان دهريًا. إلى آخره ما سمعته آنفًا، والتعجيب لزعمه حقيقة أنه عليه السلام ادعى خلاف أمر محقق وهو ربوبية نفسه عليه اللعنة والله تعالى أعلم، ولما رأى عليه السلام فظاظة فرعون. اهـ.

.قال القاسمي:

{قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} أي: لكونه يدعو إلى خلاف ما عقل عن الآباء.
{قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} أي: شيئًا ما، أو إن كنتم من أهل العقل علمتم أن الأمر كما قتله. وفيه إيذان بغاية وضوح الأمر، بحيث لا يشتبه على من له عقل في الجملة، وتلويح بأنهم بمعزل من دائرة العقل، وإنهم المتصفون بما رموه عليه السلام به من الجنون.
تنبيه:
ذهب بعض المفسرين إلى أن فرعون كان من المعطلة، لا يقر بخالق، ولا يعترف بمعبود لظاهر قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وأن قومه كانوا لا يؤلهون سواه.
قال ابن كثير: ومن زعم من أهل المنطق أن هذا سؤال عن الماهية فقد غلط. فإنه لم يكن مقرًّا بالصانع، حتى يسأل عن الماهية، بل كان جاحدًا له بالكلية فيما يظهر. انتهى.
وقدمنا أنه حقق الاكتشاف الصحيح والتاريخ والوثيق، أنه كان من الوثنيين الغالين. وأن له ولقومه عدة معبودين علويين وسفليين.
وعليه فمعنى قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} أي: مطاع عظيم، وكانوا لا يتحاشون من إطلاق الإله على الجبار المسيطر. فبقي سؤاله بما يحتمل أن يكون على نهج القاعدة المنطقية، من طلب الاكتناه، وتعجبه من جوابه، ثم رميه بالجنون، ثانيًا، لعدوله عن الكنه إلى الأثر. ويحتمل أن يكون لتعرفه من جهة وحدته في ربوبيته التي ادعاها موسى، وأن تعجبه لما شاهد من الجد في الدعوة والثبات عليها، والصدع بما يؤلم عظمته، ويغمز جبروته؛ وهذا هو الذي أذهب إليه، فإن القوم بمعزل عن أن يعجبوا لكون الجواب كان بالرسم لا بالحد، إذ هو اصطلاح لفئة خاصة، ومع هذا فالنظم يحتمله ولا يأباه. وقد عول عليه كثير من أهل النظر، ولا بأس بأن نأثر شيئًا من لطائفهم فيه.
قال الرازيّ: السؤال بما طلب لتعريف حقيقة الشيء. وتعريف حقيقة الشيء إما أن يكون بنفس تلك الحقيقة، أو بشيء من أجزائها، أو بأمر خارج عنها، أو بما يتركب من الداخل والخارج. أما تعريفها بنفسها فمحال؛ لأن المعرف معلوم قبل المعرف. فلو عرف الشيء بنفسه لزم أن يكون معلومًا قبل أن يكون معلومًا، وهو محال. وأما تعريفها بالأمور الداخلية فيها، فهاهنا في حق واجب الوجود محال، لأن التعريف بالأمور الداخلة، لا يمكن إلا إذا كان المعرف مركبًا، وواجب الوجود يستحيل أن يكون مركبًا؛ لأن كل مركب، فهو محتاج إلى كل واحد من أجزائه. وكل واحد من أجزائه فهو غيره؛ فكل مركب محتاج إلى غيره. وكل ما احتاج إلى غيره فهو ممكن لذاته. وكل مركب فهو ممكن، فما ليس بممكن يستحيل أن يكون مركبًا. فواجب الوجود ليس بمركب، وإذا لم يكن مركبًا استحال تعريفه بأجزائه. ولما بطل هذان القسمان، ثبت أنه لا يمكن تعريف ماهية واجب الوجود، إلا بلوازمه وآثاره.
ثم إن اللوازم قد تكون خفية، وقد تكون جلية. ولا يجوز تعريف الماهية باللوازم الخفية، بل لابد من تعريفها باللوازم الجلية. وأظهر آثار ذات واجب الوجود وهو هذا العالم المحسوس، وهو السماوات والأرض وما بينهما.
فقد ثبت أنه لا جواب البتة لقول فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} إلا ما قاله موسى عليه السلام، وهو أنه رب السماوات والأرض وما بينهما. فأما قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}. فمعناه إن كنتم موقنين باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود، فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته. لأنكم لما سلمتم انتهاء هذه المحسوسات إلى الواجب لذاته، وثبت أن الواجب لذاته فرد مطلق، وثبت أن الفرد المطلق لا يمكن تعريفه إلا بآثاره. وثبت أن تلك الآثار لابد وأن تكون أظهر آثاره وأبعدها عن الخفاء، وما ذاك إلا السموات والأرض وما بينهما. فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا بأنه لا جواب عن ذلك السؤال، إلا هذا الجواب.
ولما ذكر موسى عليه السلام هذا الجواب الحق، قال فرعون لمن حوله: {أَلا تَسْتَمِعُونَ} وإنما ذكر ذلك على سبيل التعجب من جواب موسى، يعني أنا أطلب منه الماهية، وخصوصية الحقيقة، وهو يجيبني بالفاعلية والمؤثرية.